فنجا عبق التاريخ
المقال من جريدة عمان
الحارات العُمانية مهما تنوّع وجودها الجغرافي واختلفت مُسمياتها، فهي جزء من التراث العُماني الذي تشكّل بفعل تفاعل الإنسان مع مقتضيات حياته منذ آلاف السنين، تلك الحارات تتكوّن أيضًا في نطاق التراث بشقيه، المادي وغير المادي، خاصة أنها تمتزج بتصاعد مع واقع الحياة اليومي لقاطنيها وما يقومون به من أعمال وأحداث متباينة. حارة فنجاء بولاية بدبد، بمحافظة الداخلية لا تنفصل عن واقع الأُلفة التي يشغلها ذلك الإنسان الذي عَرَفَ أرضه واتجاهاتها، التي طالما شكّلت خطواته نحو أنسنة أروقتها وطرقاتها المتنوعة. حارة فنجاء الرابضة بجمالها فوق هضبة صخرية مسوَّرة ومحصَّنة تحصينًا قويًا، وتتبع ولاية بدبد بمحافظة الداخلية، وتعدّ الحارة الرئيسية في واحة فنجاء التي تتكوّن أيضًا من الشرجة والتصاوير وسيب مهري وجبل الغبرة وطوي منصور ونطايل، وتتحكم بأحد أهم المنافذ إلى عُمان الداخل على طول فجوة سمائل من جانبها المتجه للبحر تحتل حارة فنجاء نتوءًا صخريًا طويلاً يمتد على نحو شبه مباشر من الشمال إلى الجنوب، ولكن يبدو أن نصفه الشمالي فقط هو الذي كان مأهولاً بصفة مستمرة، إذ إن الجزء الجنوبي شديد الانحدار. ولهذا السبب فقد شكّل نقطة الرصد والمراقبة الأساسية للحارة، يعززها برجان يُطلان على المنظر الطبيعي الممتد والطرق القادمة من الجنوب، أي من داخل عُمان. تُشير المصادر القديمة إلى أنّ فنجاء تحكمت بالمنفذ المُفضي إلى نبع الحمّام الغربي والذي يعتقد أنّه السبب في الجودة العالية لأشجار النخيل في الواحة، وما تزال هذه الأشجار تحظى برعاية كبيرة من ملاكها. رغم قُرب الحارة نسبيًا من بدبد – وهي المركز الأكبر والأغنى – فقد أضفى الموقع الاستراتيجي للواحة أهمية بخطوط التجارة في شمال عُمان، ويحتمل أن تكوينها الدفاعي القوي والتحصينات الشديدة على طول منطقة ضيقة في الطريق قد أكسب سكانها ثقلاً سياسيًا في رسم سياسة المنطقة. تعود معظم أبراج فنجاء بتاريخها إلى عدة قرون مضت، بيد أنه أُعيد بناؤها مرة تلو الأخرى لما يصيبها من العطب حين لا تستخدم في أوقات السلم والأبراج في هيئتها الحالية تؤرخ بحوالي ثمانين عامًا، إذ أعاد بناءها شيوخ القبائل وأعيان العائلات في فنجاء، ومن العناصر الأساسية لبنية فنجاء الدفاعية تلك الأبراج الكثيرة التي توجت أطراف هضبة الحارة وقممها. وتتراوح هذه الأبراج في أنواعها ما بين مراكز مراقبة عادية ومنصات لإطلاق نيران المدافع والبنادق، والمعاقل ذات الجدران السميكة. وأغلب هذه الأبراج مصنوعة من الطوب الطيني بكثافات متفاوتة، باستثناء البرج الذي رغم ترميمه قبل وقت قريب إلا أنه جصص أصلاً بالصاروج الأبيض، ومن الملامح الدفاعية الأخرى في فنجاء جدرانها المحيطة التي شكّلت منصة مرتفعة ومدعّمة يمكن من خلالها الاشتباك مع المعتدين في القرون الماضية، وكذلك المنازل الواقعة أعلى الجرف والتي شكّلت في بعض الأوقات جزءًا من النظام الدفاعي العام. وإلى جانب هذه المنشآت الدفاعية الثابتة التي عملت على حماية أهل فنجاء، فإنّ الحارة تمتلك ثلاثة مدافع حديدية موجهة باتجاه الوادي، ويُقال إنّ أكبر هذه المدافع كان للبرتغاليين ولذلك فهو قديم جدًا. وما تزال فنجاء تشهد طلقات من هذه المدافع، إشارة إلى بداية الاحتفال بالعيد ونهايته. تتميّز حارة فنجاء بعددٍ كبير من الساحات المفتوحة التي كانت تُستخدم للأغراض العامة والتعاملات اليومية. فمنها تشهد استخدامًا سنويًا خلال احتفالات /العزوة/، في حين أنّ العديد من المناطق الأصغر منها كانت تستخدم لأغراض أكثر عملية، كالتجمّع لاستخدام /تنور العيد/ وأيضًا تجفيف التمور. وقد بدأت تنفتح مساحات أخرى مؤخرًا بسبب انهيار بعض المباني، وموت العديد من أشجار التوت التي كانت تنمو ذات يوم في الحارة. ولتحقيق أهداف خطة إدارة التراث فإنّ إعادة تشجير الحارة تعدّ من الأولويات المقترحة لأخذها بعين الاعتبار وتتسم هذه الاحتفالات بطبيعة طقوسية شكّلتها أعراف تقليدية عديدة تعد جزءًا لا يتجـزأ من هذه الاحتفالات وتدلل على عراقتها. تؤرّخ أصول /العزوة/ عادة إلى القرن الثامن الميلادي، بيد أن الدرجة الكبيرة من التداخل الديني الملاحظ في عُمان تُشير إلى إمكانية تأريخ /العزوة/ إلى فترة ما قبل الإسلام. وبالنسبة لواحة فنجاء وسكانها يبرز عنصر واحد من العناصر التي تُعرف بها المنطقة وهو احتفال /العزوة/ الذي يُقام في العيدين، وتتألف احتفالات /العزوة/ بشكل أساس من أعداد كبيرة من الرجال والصبية من القرى المجاورة يتجمعون في حارة فنجاء، ويشكّلون أربعة مواكب على مواضع مختلفة من الواحة تلتقي عند البوابة الغربية للحارة، ولا يسمح لهـم بدخول الحارة إلا بعـد أن يرددوا جملة مُتّفق عليها. ويصاحب هذه الاحتفالات مسابقات، ومبارزة بالسيف والرقص وإنشاد الشعر، إلى جانب إطلاق قذائف من مدافع فنجاء القديمة. وتحظى العديد من الحارات العُمانية اليوم باهتمام بالغ من المؤسسات الرسمية المعنية بها، بدءًا من الترميم ودراسة تاريخها وآليات الحفاظ عليها، فإدارة التراث لا تقتصر على الحفاظ على البقايا المعمارية أو المادية.